(مناظرة الامام الصادق عليه السلام مع رجلٌ من أهل الشام)

(مناظرة الامام الصادق عليه السلام مع رجلٌ من أهل الشام)

 

روى عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عمّن ذَكَرَه ، عن يونسَ بن يعقوبَ ، قالَ : كنتُ عند أبي

عبد الله ( عليه السلام ) فورَد عليه رجلٌ من أهل الشام فقال : إنّي رجلٌ صاحبُ كلام وفقه وفرائضَ وقد

جئت لمناظرة أصحابِك ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” كلامك من كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو من

عندك ؟ ” فقال : من كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن عندي ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” فأنت إذاً شريكُ

رسول الله ؟ ” ، قال : لا ، قال : ” فسمعتَ الوحيَ عن الله عزّ وجلّ يُخبِرُك ؟ ” ، قال : لا ، قال :

” فتَجِبُ طاعتُك كما تَجِبُ طاعةُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ” ، قال : لا ، فالتفتَ أبو عبد الله ( عليه السلام ) إليَّ فقال : ” يا يونس بن يعقوب ، هذا قد خَصَمَ نفسَه قبل أن يتكلّمَ ” ، ثمَّ قالَ : ” يا يونسَ ، لو كنتَ تُحسِنُ الكلامَ كَلَّمْتَهُ ” .

قال يونس : فيا لها من حَسرة ، فقلتُ : جُعِلتُ فداك ، إنّي سمعتُك

تنهى عن الكلام وتقول : ويلٌ لأصحاب الكلام يقولون : هذا ينقادُ وهذا لا ينقادُ ، وهذا

ينساقُ وهذا لا ينساقُ ، وهذا نَعقِلُه وهذا لا نَعقِلُه ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” إنّما قلتُ : فويلٌ

لهم إن تركوا ما أقولُ وذهبوا إلى ما يريدون ” .

ثمَّ قالَ لي : ” أُخْرُجْ إلى الباب ، فانظُرْ من تَرى من المتكلّمين فَأدْخِلْه ؟ ” قال : فأدخَلْتُ

حُمرانَ بن أعينَ وكانَ يُحسِنُ الكلامَ ، وأدخلتُ الأحولَ وكان يُحسِنُ الكلامَ ، وأدخلتُ هشام

بن سالم وكان يُحسِنُ الكلامَ ، وأدخلتُ قيسَ الماصرَ وكان عندي أحسَنَهم كلاماً ، وكانَ قد

تَعَلَّمَ الكلامَ من عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) ، فلمّا استقرَّ بنا المجلسُ – وكانَ أبو عبد الله ( عليه السلام ) قبل

الحجّ يَستقرُّ أيّاماً في جَبَل في طرف الحرم في فازَة له مضروبَة – قال : فأخرَجَ أبو

عبد الله ( عليه السلام ) رأسَه من فازته ، فإذا هو ببعير يَخُبُّ ، فقال : ” هشامٌ ورَبِّ الكعبة ” ، قالَ : فظننّا

أنَّ هِشاماً رجلٌ من وُلْد عقيل كانَ شديدَ المحبّة له .

قال فوردَ هشام بن الحكم وهو أوَّلُ ما اخْتَطَّتْ لحيتُه ، وليس فينا إلاّ مَنْ هو أكبرُ سِنّاً

منه ، قال : فوسَّع له أبو عبد الله ( عليه السلام ) وقال : ” ناصرُنا بقلبه ولسانه ويده ” ثمّ قال : ” يا حُمران ،

كَلِّم الرجلَ ” فكلَّمَه ، فظهر عليه حُمرانُ ، ثمّ قال : ” يا طاقِيُّ ، كَلِّمْهُ ” فكلَّمَه ، فظهر عليه الأحولُ ، ثمّ قال : ” يا هشام بن سالم ، كَلِّمْه ” فتعارفا ، ثمَّ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) لقيس الماصِرِ :

” كَلِّمْه ” فكلَّمَه ، فأقبل أبو عبد الله ( عليه السلام ) يَضْحَكُ من كلامهما ممّا قد أصابَ الشاميَّ .

فقال للشاميّ : ” كَلِّمْ هذا الغلام ” . يعني هشام بن الحكم ، فقالَ : نعم ، فقالَ لهشام : يا

غلام ، سَلْني في إمامة هذا ، فغَضِبَ هشامٌ حتّى ارتَعَدَ ، ثمّ قال للشاميّ : يا هذا ، أربُّك أنْظَرُ

لخَلْقِه أم خَلْقُه لأنفسهم ؟ فقال الشاميُّ : بل رَبّي أنظَرُ لخَلْقه ، قال : ففعَل بنظره لهم ما ذا ؟

قال : أقامَ لهم حجّةً ودليلا كيلا يَتشتّتوا أو يَختلفوا ، يَتَألَّفهم ويُقيمُ أوَدَهم ويُخبِرُهم بفَرضِ

ربّهم ، قال : فمن هو ؟ قال : رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قالَ هشامٌ : فبعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : الكتابُ

والسنّةُ ، قالَ هشامٌ : فهل نَفَعَنا اليومَ الكتابُ والسنّةُ في رفع الاختلاف عنّا ؟ قال الشاميُّ :

نعم ، قالَ : فَلِمَ اخْتَلَفْنا أنا وأنت وصرتَ إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك ؟ قال : فسَكَتَ

الشاميُّ ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) للشاميّ : ” ما لك لا تَتكلّمُ ؟ ” قالَ الشامي : إن قلتُ : لم نَخْتَلِفْ

كَذَبْتُ ، وإن قلتُ : إنَّ الكتابَ والسنّةَ يَرفعانِ عنّا الاختلافَ أبْطَلْتُ ؛ لأنّهما يحتملانِ الوجوهَ ،

وإن قلتُ : قد اختلَفْنا وكلُّ واحد منّا يَدَّعي الحقَّ فلم يَنْفَعْنا إذَنِ الكتابُ والسنّةُ إلاّ أنّ لي

عليه هذه الحجّةَ ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” سَلْه تَجِدْهُ مَليّاً ” .

فقال الشاميُّ : يا هذا ، من أنظَرُ للخَلْق ، أرَبُّهم أو أنفسُهم ؟ فقال هشام : رَبُّهم أنْظَرُ لهم

منهم لأنفسهم ، فقال الشاميُّ : فهل أقامَ لهم من يَجْمَعُ لهم كلمتَهم ويُقيمُ أوَدَهُم ويُخبِرُهم

بحقّهم من باطلهم ؟ قال هشام : في وقتِ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو الساعةِ ؟ قال الشاميُّ : في وقت

رسولِ الله رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) والساعةِ مَنْ ؟ فقالَ هشامٌ : هذا القاعدُ الذي تُشَدُّ إليه الرِّحالُ ،

ويُخْبِرُنا بأخبار السماء والأرض وِراثةً عن أب عن جدٍّ ، قال الشاميُّ : فكيف لي أن أعْلَمَ

ذلك ؟ قال هشام : سَلْه عمّا بدا لك ، قال الشاميُّ ، قطعتَ عُذري فَعَلَيَّ السؤالُ .

فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” يا شاميُّ ، أُخبِرُك كيف كانَ سفرُك ؟ وكيف كانَ طريقُك ؟ كانَ كذا

وكذا ” فأقبَلَ الشاميُّ يقول : صدقتَ ، أسلمتُ لله الساعةَ ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” بل آمنتَ

بالله السّاعةَ ، إنّ الإسلامَ قبلَ الإيمان ، وعليه يَتوارَثونَ ويَتناكحونَ ، والإيمانُ عليه يُثابونَ ” ،

فقالَ الشاميُّ : صدقتَ ، فأنا الساعةَ أشهد أن لا إله لا إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنّك

وصيُّ الأوصياء .

ثمَّ التفت أبو عبد الله ( عليه السلام ) إلى حُمرانَ ، فقال : ” تُجري الكلامَ على الأثَرِ فتُصيبُ ” ؛ والتفتَ

إلى هشام بن سالم ، فقال : ” تُريدُ الأثرَ ولا تَعْرِفُه ” ، ثمّ التفتَ إلى الأحولِ ، فقال : ” قيّاسٌ

رَوّاعٌ ، تَكْسِرُ باطلا بباطل ، إلاّ أنّ باطِلَكَ أظهَرُ ” ، ثمَّ التفتَ إلى قيس الماصر ، فقال : ” تَتكلّمُ

وأقربُ ما تكونُ من الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبعدُ ما تكونُ منه ، تَمزُجُ الحقَّ مع الباطل ،

وقليلُ الحقّ يَكفي عن كثيرِ الباطل ، أنتَ والأحولُ قَفّازانِ حاذِقانِ ” . قالَ يونسُ : فظننتُ والله

أنّه يقولُ لهشام قريباً ممّا قالَ لهما ، ثمَّ قال : ” يا هشام ، لا تكادُ تَقَعُ تَلْوِي رِجْليك ، إذا

هَمَمْتَ بالأرضِ طِرْتَ ، مُثْلُك فَلْيُكَلِّمِ الناسَ ، فَاتَّقِ الزلَّةَ ، والشفاعةُ من ورائها إن شاء الله ” .

المصدر :

الإرشاد، ج ٢، الشيخ المفيد، ص ١٩٩.

الكافي 1 : 130 / 4 .

وذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب . 4 : 243 .

وروى الطبرسي في الاحتجاج : 364 ، مثله .

ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 203 / 7 .

(شرح مفردات الحديث ومعانيه )

قوله : ( رجل صاحب كلام وفِقْه وفرائض ) أي عالم بعلم الكلام وعلم الفقه والفرائض . وذكر الفرائض بعد الفقه لكثرة مدخليّة معرفة الحساب فيه واستمدادها منه ، بخلاف الفقه ؛ فإنّ مداره على الأخذ عن قول الشارع والعلم به من غير مدخليّة

الحساب ومثله .

وقوله : ( وقد جئتُ لمناظرة أصحابك ) . الظاهر أنّ مراده المناظرةُ في الإمامة ، كما في قوله لهشام : ” سلني في إمامة هذا ”

وإنّما قال : ” لمناظرة أصحابك ” تأدّباً أو تعريضاً بأنّ أصحابه قالوا بهذا الأمر بلا معرفة .

ولمّا كان المناط في الإمامة قولَ الشارع ، قال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( كلامك من كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو من عندك ؟ ) أي مناظرتك في الإمامة واحتجاجُك من كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو من عندك ؟ فلمّا قال : من كلامه ( صلى الله عليه وآله ) ومن عندي قال ( عليه السلام ) : ( فأنت إذاً شريك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ) في رسالته وشرعه للدين ؛ لأنّ المناط فيه قول الشارع ، فلمّا نفى الشركة ، قال ( عليه السلام ) : ( فسمعتَ الوحي عن الله ) أي المبيّن للإمامة إعلام الله بها ، أو تعيين ممّن أوجب الله طاعته كطاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإعلامُ الله إمّا بواسطة الرسول ، أو

بالوحي بلا واسطة ، وما بوساطة الرسول فهو من كلامه ، لا من عندك ، فتعيَّن عليك في  قولك : ” من عندي ” أحدُ الأمرين : إمّا الوحي إليك بسماعك عن الله بلا واسطة ، أو وجوب طاعتك كوجوب طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلمّا نفاهما بقوله : ” لا ” في كليهما ، لزمه  نفي ما قاله من قوله : ” ومن عندي ” ولذا  قال ( عليه السلام ) : ( هذا خاصم  نفسه قبل أن يتكلّم ) .

وقوله ( عليه السلام ) : ( إنّما قلت : فويل لهم إن تركوا ما أقول ) أي ما ثبت من الشارع في الدين ، ووجب الأخذ به ، وذهبوا إلى خلافه من الباطل الذي يريدونه ، كمتكلّمي العامّة من المرجئة والقَدَريّة وأشباههم .

وفيه دلالة على حسن التكلّم والاشتغال بتحصيل الكلام ممّن كان ميسّراً له بتوفيق الله سبحانه باسترسال طبيعته ، واشتغال قريحته ، وسلامته عن اللجاج والعناد والانحراف الناشئ عن الحسد والرغبة إلى الفَساد .

ويدلّ قول يونس بن يعقوب في قيس بن الماصر : ” وكان قد تعلّم الكلام من

عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) ” [ على ] أنّهم ( عليهم السلام ) كانوا يعلّمون الكلام لأصحابهم ، وكفى به

شرفاً وفضلا لهذه الصناعة على ما لم يعلّموه من الصنائع وما ليس من العلوم بصناعة .

قوله : ( فإذا هو ببعير يخبّ ) أي يسرع ويعدو ( فقال : هشامٌ وربِّ الكعبة ) .

وفي هذا القول دلالة على كثرة سروره ( عليه السلام ) بقدومه ، وشدّة محبّته ( عليه السلام ) له ، كفى به

وبقوله ( عليه السلام ) : ( ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ) عزّاً ومكرمةً ورِفعةَ شأن له ، وشرفاً وفضلا

لما نال به تلك المنزلةَ .

وقوله : ( ثمّ قال : يا هشام بن سالم كلّمه ، فتعارفا ) أي تكالما بما حصل به

التعارف بينهما ، ومعرفةُ كلّ واحد بالآخر وبكلامه بلا غلبة لأحدهما على الآخر .

وقوله : ( أربّك أنظر لخلقه ) أي أكثر إعانةً لخلقه ( أم خلقه لأنفسهم ؟ ) ولمّا قال

الشامي : ( بل ربّي ) سأله عمّا فعل بإعانته لهم ، فأجاب بأنّه ( أقام لهم حجّةً ودليلا كي

لا يتفرّقوا ويختلفوا ، يتألّفهم ) ذلك الدليل والحجّةُ ويزيل اعوجاجهم وانعطافهم

عن الحقّ بإقامتهم .

فلمّا سأله عن الحجّة والدليل بقوله : ( فمن هو ؟ ) وأجابه بأنّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن

الحجّة بعده وأجاب بأنّه الكتاب والسنّة ، أورد عليه أنّ الكتاب والسنّة لا يرفع

الاختلاف ، ولا يُنتفع بهما في رفع الاختلاف ؛ لوقوع الاختلاف مع المراجعة إليهما ،

كما هو المشاهَد ، وذلك لما فيهما من وجوه محتملة لا نقدر على معرفة الحقّ

والمراد منها ، فانقطع الشامي وسكت ؛ حيث لم يجد مخرجاً عمّا ذكره ، ولم يقدر

على نقض مقدّمة منها كما اعترف به فيما ذكره .

وقوله : ( وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ ) أي يدّعي في قوله أنّه الحقّ دون قول

مخالفيه . ولمّا لم يبق له سبيل إلى النقض التفصيلي والدخلِ في مقدّمة من

المقدّمات ، أراد سلوك سبيل المعارضة بالمثل ، أو النقض الإجمالي ، والأوّل أظهرُ ؛

لقوله : ( إلاّ أنّ لي عليه هذه الحجّة ) فلمّا وصل الكلام إلى قوله : ( هذا القاعد الذي

تُشدّ إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء  وراثةً عن أب عن جدّ ) قال له الشامي :

( فكيف لي أن أعلم ذلك ؟ ) لأنّه لا سبيل إلى علمه إلاّ الكتاب والسنّة وقد سُلّم بيننا

كما سبق ، وبُيِّن أنّهما لا ينفعان في رفع الاختلاف ، فأجابه هشام ، فقال : ( سَلْه عمّا

بدا لك ) إشارةً إلى أنّ السبيل إلى علم ذلك حينئذ إعجازه وإخباره بما لا سبيل إلى

علمه عادةً ، فسَلْه عمّا بدا لك حتّى يظهر عليك أنّه الحجّة بإعجازه ، ويُعلَم صدق قوله

في كلّ ما يقوله ، فيُرجع إلى قوله فيما اختُلف فيه ، كما كان يُرجع إلى قول رسول الله ،

ويكون الساعة حجّةً ودليلا ، كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حجّة ودليلا .

ولا يخفى ما في قول هشام : ” ويخبرنا بأخبار السماء وراثةً عن أب عن جدّ ” من

الإشارة إلى إعجازه وكونِه طريقَ معرفته ، إلاّ أنّ السائل لم يفهم ذلك ولم يحمل

كلامه عليه ، بل حمله على إخباره عمّا وصل إليه عن أب عن جدّ بطريق النقل

والرواية ، فأورد ما أورد ، فنبّهه بقوله : ” سَلْه عمّا بدالك ” بالتعميم في المسؤول عنه

تعميماً لا يحيط به النقل ، ولا يحصره الرواية .

ويحتمل أن يكون السائل فهم مرادَه ، ويكونَ مراد السائل بقوله : ” فكيف لي

أن أعلم ذلك ” أي بأيّ طريق أعلم ذلك الإعجازَ الذي ادّعيته لإثبات حجّيّته ؟

ولعلّ ذلك القول من السائل على هذا الاحتمال عند ظهور أنوار الحقّ وأمارات

الصواب من وَجَنات كلام هشام في إثبات إمامته ( عليه السلام ) ، ورغبته في الفَيَضان عليه

من ذلك الجناب .

وقوله : ( قيّاس روّاغ ) أي ميّال عن الحقّ ، تدفع باطلا بباطل أظهرَ منه .

وقوله لقيس : ( تتكلّم وأقرب ما يكون ( 1 ) من الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبعد ما

يكون منه ) أي تتكلّم وكلامُك أقربُ ما يكون من الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبعد ما

يكون منه ، أي مشتمل عليهما ، تمزج الحقَّ القريبَ من الخبر عنه مع الباطل البعيد

عنه ، ولو اكتفيت بالحقّ عن الباطل لأصبت ، وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل .

ويحتمل وجهين آخَرَيْن :

أحدهما : كون الضمير في قوله : ” أبعد ما يكون منه ” راجعاً إلى الكلام ، والمعنى

تتكلّم والحالُ أنّ أقربَ ما يكون من الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبعد ما يكون من

كلامك .

وثانيهما : أن يكون راجعاً إلى الخبر ، ويكون المعنى والحال أنّ أقرب ما يكون

من الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبعد ما يكون من الخبر عنه في كلامك وبحسب حملك

وتنزيلك .

والأوّل منهما أنسبُ بقوله : ” أنت والأحول فقّاران ( 2 ) حاذقان ” والثاني أنسبُ

بقول الراوي : ” كان قد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) ” وما ذكرناه أوّلا أظهرُ

منهما كما لا يخفى ، وأنسبُ بحال قيس وتعلُّمِه من عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) .

وفي بعض النسخ ” أقرب ما تكون ” بلفظ الخطاب ، أي أقرب حالك التي تكون

عليها من الخبر أبعد حالك عنها . وحاصله : أنّه إذا أردت القرب من الخبر والموافقة

له تقع في المخالفة والبُعد عنه ، وهذا كثاني الاحتمالين السابقين .

ويمكن حمل هذه النسخة أيضاً على مثل ما ذكرناه أوّلا .

وقوله : ( أنت والأحول فقاران ( 1 ) حاذقان ) .

يقال : افتقر عن معان غامضة ، أي فتح عن معان غامضة واستخرجها ، من فقرتُ

البئر : إذا حفرتَها لاستخراج مائها . و ” الفقّار ” : فعّال من فقر . وحاصل المعنى فتّاحان

عن المعاني المغلقة ، مستخرجان للغوامض ، حاذقان في الاستخراج .

وقوله : ( يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك ) أي لا تكاد تسقط حالَ كونك تثني

رجليك ( إذا هممتَ بالأرض ) وقصدتها نزولا [ ( طِرْتَ ) ] نزلت بالطَيَران ، لا

بالسقوط بالعجز عن الطيران . ولا يخفى ما فيه من الدلالة على كمال قوّته واقتداره

في التكلّم الذي كنى بالطيران عنه تشبيهاً له في حاله بالطائر الكامل في قوّته على

الطيران ؛ حيث ادّعى له ما يندر تحقّقه في الطير .

( مثلك ) أي مَن يكون بهذه المرتبة من القوّة في الكلام فعليه أن يكلّم الناس

وهو به حقيق ( فاتّق الزلّة ) إذا كلّمتهم . والزلّة تكون بالكلام عند تحقّق موجب

السكوت – كخوف الضرر بالنسبة إلى الحجّة ، أو مَن تبعه من الفرقة ، أو على نفسه –

وبالمساهلة المنجرّة إلى الخَلَل في البيان ، اعتماداً على قوّة الغلبة على الخصم وإن

لم يكن البيان صحيحاً ، وبالعُجب باقتداره على ما يعجز عنه الأشباهُ والأقران .

الحاشية على أصول الكافي، محمد بن حيدر النائيني، ص ٥٢٩

مقالات ذات صلة